بواسطة : محمد عبد الكريم العميري - سلطنة عمان المصدر : الفصل الأول من كتاب الدكتور حازم خيري، الصادر في القاهرة مؤخرا (يوليو 2007)، عن دار سطور للنشر
الإنسان Human Being وتر مشدود على الهاوية الفاصلة بين لانهايتين: الوجود المطلق، والعدم المطلق. ولذا كان وجوده نسيجا من كلا النقيضين، على تفاوت في نصيب كليهما منه، وفقا للحظات الزمنية، بكل ما تنطوي عليه من إمكانيات، تترجح بين المد والجزر، في تيار المصير المتوثب للروح
لكن مهما يكن من كم هذا التفاوت وكيفيته، فالينبوع الدافق الثري للوجود الحي هو دائما الإنسان، والإنسان فحسب، وان نسي هو أو تناسى هذا الأصل، فانشق على نفسه وفرض عنصرا من عناصره الوجودية على الآخر، حتى يجعل الصلة بينهما صلة التابع والمتبوع. بيد أنه سرعان ما يرتد، في لحظة أخرى تالية، إلى الينبوع الأصيل للوجود الحي، أعني إلى نفسه يستمد منها معايير التقويم، ومن ثم يبدأ لحظة جديدة، لها في التطور الحضاري داخل الحضارة الواحدة مركز الصدارة. وهذا العود المحوري إلى الوجود الذاتي الأصيل هو ما يسمى في التاريخ العام باسم "النزعة الإنسانية Humanism"
في موعد النصر متسع للجميع" إيمي سيزير
ويعتمد الكاتب في كتابه الماثل مصطلح "الأنسنية" للدلالة على النزعة الإنسانية المشار إليها سلفا، والقائلة بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، تمييزا لها عن "الإنسانيات" باعتبارها مادة الدراسة الجامعية التي تعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ، أو بمعنى أكثر حصرا باعتبارها دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. وكذلك تمييزا لتلك النزعة عن "الإنسانوية" التي تستخدم للدلالة على الميل أو النزوع إلى الإنسانية أو ادعائها. ويعود الفضل في نحت مصطلح الأنسنية (كمرادف للمصطلح الغربي Humanism) للأستاذ فواز طرابلسي، في إطار ترجمته لآخر مؤلفات الراحل إدوارد سعيد، وهو كتاب " الأنسنية والنقد الديمقراطي Humanism and Democratic Criticism "، فقد اقتضت الترجمة الوافية نحت مصطلح عربي يستوعب المضامين الفكرية التي أودعها سعيد كتابه الأخير، والتي تبرز تطوره الفكري والأدبي وقد تأوج في التزامه النهج الأنسني
نشأة مصطلح "الأنسنية
قد يكون مفيدا، ونحن بصدد التأريخ لنشأة مصطلح "الأنسنية"، تذكر قول الدكتور محمود رجب بأن الكلمات، شأنها شأن الأشخاص والشعوب، لا تنشأ في فراغ ولا تهبط من السماء، وإنما تنشأ في قلب المجتمع البشري، وتتكون معانيها من خلال معاناة الإنسان لمشكلات تاريخية حية. وكذلك قوله أن الكلمات الفنية التي نسميها بالمصطلحات، وخاصة في الفلسفة، لا تختلف كثيرا من حيث نشأتها في المجتمع عن غيرها من الكلمات، بل إنها لتبدأ، في أغلبها كلمات عادية في لغة الحياة اليومية، أو ألفاظا عابرة في مؤلفات بعض المفكرين، حتى إذا ما جاء أحدهم وتوقف وقفة طويلة عند واحدة منها ورأى أنها أكثر تعبيرا من غيرها عن مشكلة أو مشكلات بعينها يكابدها وتشغل تفكيره، فحينئذ، وحينئذ فقط، تأخذ هذه الكلمة، وعلى يديه، دلالات ومعاني محددة، وتكتسب ملامح وأبعاد متميزة. ومن ثم يبدأ النظر إليها على أنها كلمة فنية أي مصطلح. بيد أنه بخروج المصطلح من مجاله الخاص، وانتشاره سواء في مجالات أخرى متخصصة أو في الحياة العامة، فانه لا يلبث أن تلحق به معاني هامشية ربما أسدلت على معانيه الأصلية أستارا من اللبس وسوء الفهم. وهو ما يلقي على عاتق الباحثين مهمة التمييز بين ما هو أساسي وما هو غير أساسي في معانيه
ولعل مصطلح "الأنسنية Humanism" أن يكون واحدا من أكثر مصطلحات الفلسفة المعاصرة تجسيدا لهذه الحقيقة الخاصة بنشأة المصطلحات وتطورها وانتشارها. فمن الصعب علينا فهم دلالته حق الفهم، بمعزل عن المشكلات الإنسانية والظروف التاريخية التي مرت بعصور من استخدموه من مفكرين وفلاسفة، وهو ما يحتم علينا تتبع البدايات الأولى لاستخدامه. فقد أطلق هذا المصطلح، أول ما أطلق، للدلالة على الحركة الفكرية التي يمثلها المفكرون الأنسنيون Humanists في عصر النهضة، من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير فرنشسكو بتراركه Francesco Petrarca ورفاقه.
وهي حركة أوضح سماتها السعي إلى الإعلاء من سلطان العقل، ومقاومة السلطة والجمود، وسبيل أنصارها التمرد علي قيود القرون الوسطى وتحطيمها. ويظل اقتراح المفكر المصري إسماعيل مظهر باعتماد النشورية، وليس الأنسنية، ترجمة للمصطلح الغربي Humanism، وكذلك اقتراحه اعتماد النشورى، وليس الأنسني، ترجمة للمصطلح الغربي Humanist، الأكثر تعبيرا عن مضمون تلك الحركة الفكرية المشار إليها سلفا. فالنشورية من النشور بمعنى البعث، وبالتالي هي الأكثر تعبيرا عما قصد إليه المصطلح الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة
والحركة الأنسنية أو النشورية في مطلع عصر النهضة، شأنها في ذلك شأن أي ثورة ثقافية أخرى، أعادت تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، ثم لم تلبث أن تحدت المعنى الذي خلعه على الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر. وكانت الشرارة الأولى في الثورة نهوض جماعة من المفكرين الأنسنيين أو النشوريين، أعلنت تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية. وبطبيعة الحال جاء ذلك الإعلان على استحياء أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن أضحى أكثر جرأة فيما بعد. إذ مضت تلك الجماعة الأنسنية قدما في تحدي الازدراء الذي نظر به رجال الدين في العصر الوسيط إلى عالمنا، وأكدت جزما أن الأرض مقام جميل طيب، وأن الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمرا عرضيا وبغيضا كما يروج لذلك تجار الآلام. ولما كان للقدامى نفس الوضع، فان الأنسنيين التجئوا لدعم منطقهم الجريء إلى نفوذ الإغريق واللاتين، ومن ثم اتخذت الحركة الأنسنية من زاوية تلك الحاجة شكل إحياء التراث القديم. ويمكن اعتبار أولئك الأنسنيين الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر، ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون الوسطى، صارخة عقولهم قبل ألسنتهم: " أيتها الحرية.. إننا نعشقك "
على هذا النحو انطلقت الحركة الأنسنية قوية فاتحة، وساعد على ذلك اختراع آلة الطباعة، رغم استقبال الأنسنيين لهذا الحدث ببرود يماثل برود استقبالهم لحدث آخر لا يقل أهمية، وهو الاستكشافات الجغرافية. فليس ثمة شك في أن الأنسنيين الثائرين، كانوا أبعد عن أن يبتهجوا باختراع الطباعة! بل انهم عادوها في البداية! ولدينا مثل واضح على ذلك، ضربه لنا فسبزيانو دابستيتشي Vespasiano da Bisticci، وهو أحد ذوي الأفكار النبيلة في القرن الخامس عشر. فمع أن فسبزيانو مات في عام 1498 فقط، أي في وقت كان فن الطباعة قد بلغ فيه درجة طيبة من التقدم، نراه وقد ظل يتوجس من الطباعة إلى نهاية عمره. ليس ذلك فحسب، فقد ذكر فسبزيانو أن واحدا من حماته ونصرائه، وهو الدوق أوربينو Urbino، كان يخجل أن يمتلك كتابا مطبوعا. والحق أن هذا الموقف أصبح مستحيلا في القرن التالي، لأن الأنسنيين رأوا أن آلة الطباعة لم تعد عدوتهم، فبفضلها راحت كتبهم تنتشر في كل الأوساط بسرعة البرق. لأنه إذا كان نسخ الكتاب قبل اختراع آلة الطباعة يستغرق أسابيع عديدة أو شهورا، فان طباعته وبمئات النسخ بعد اختراعها أضحت تتم بين عشية وضحاها
وفضلا عما أسداه اختراع آلة الطباعة للحركة الأنسنية من عون، عمد الأمراء الإيطاليون بدورهم لدعم الأنسنيين ماديا ومعنويا. بل وحموهم كذلك من ضغط الكنيسة والعامة! وذلك لأسباب يخرج ذكرها عن نطاق اهتمام الكتاب الماثل، الأمر الذي ساهم بقوة في دعم الحركة الأنسنية في عصر النهضة، إذ لم يكن أولئك المدعومين سوى الطليعة الثورية للحركة. ففي مدينة فلورنسا التي أنجبت أشهر الرسامين والفنانين، وبفضل مساعدة الأمراء، راح المفكر الأنسني مارسيليو فيشينو Marsilio Ficino يترجم أعمال أفلاطون وتلامذته. وكذلك تشكلت أول أكاديمية علمية في مدينة فلورنسا، هاجر إليها كبار علماء بيزنطة بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح. وللأسف تعصبت الأكاديمية لفكر أفلاطون إلى حد أنها منعت تدريس فكر أرسطو الذي دخل إلى إيطاليا عن طريق الفلاسفة العرب، كابن سينا وابن رشد
ومن إيطاليا انتشرت الحركة الأنسنية في ألمانيا وهولندا، ومنهما إلى فرنسا. وعندما عارض رجال الدين دخول مؤلفات الفلاسفة المسلمين، بحجة أنها آتية من جهة أعداء المسيحية، قال لهم الأنسنيون الثائرون: " هذا الفكر يشكل جزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني، ونحن بحاجة إليه، وسوف نأخذ به ونستفيد منه، أيا تكن الجهة التي جاء منها! "
التعاريف الفلسفية للأنسنية
حقيقة أن المفكر الأنسني في عصر النهضة لم يكن رجلا محيطا بما كتب القدماء، مستمدا وحيه منهم فحسب، بل كان رجلا قد فتن بالقدماء فتونا جعله يقلدهم في حياتهم ويحاكيهم في قناعتهم، ويقتدي بهم في لغتهم وتفكيرهم. ولا جرم أن حركة كهذه متى أوغل فيها أصحابها إلى أقصى حدودها المنطقية، كانت خليقة أن تتجه إلى النيل من رجال الدين المسيحي بحدة وقوة. وهو ما ساعد منذ ذلك الحين على شيوع القول بالتعارض بين الحركة الأنسنية والعقيدة المسيحية في مؤلفات الأنسنيين وكتاباتهم. بيد أن الاستعمال الفلسفي لمصطلح "الأنسنية" يتصف بالحداثة النسبية، ولو أنه برزت خلاله اتجاهات فلسفية عديدة ودقيقة في تعريف المصطلح، التقت جميعها على تثمين الإنسان بوصفه أعلى قيمة في الوجود، غير أنها تفاوتت في إيمانها بقدرته منفردا على تجاوز آلامه وبلوغ طموحاته، تحدوها في ذلك مؤثرات عديدة لا مجال لذكرها أو حتى التنويه عنها. ويورد الكاتب فيما يلي رصدا موجزا ووافيا نسبيا ـ من وجهة نظره ـ لأهم وأبرز الاتجاهات الفلسفية في تعريف مصطلح "الأنسنية"
[1] تعريف شيلر F.C.S.Schiller:الأنسنية عند الفيلسوف الإنجليزي فرديناند شيلر هي أبسط وجهات النظر الفلسفية، وقوامها هو إدراك الإنسان أن المشكلة الفلسفية تخص كائنات بشرية، تبذل غاية جهدها لتفهم عالم التجربة الإنسانية، وزادها في ذلك أدوات الفكر البشري وملكاته. وطبقا لما أورده الفيلسوف شيلر في كتابه "دراسات في المذهب الإنساني Studies in Humanism "، لا خلاف بين الأنسنية وبين آراء الناس فيما تواضعوا عليه من أمور الواقع، فهي لا تنكر ما اصطلح الجمهور على وصفه بصفة " العالم الخارجي ". إنها تكن احتراما بالغا عميقا للقيمة البراجماتية للتصورات التي تدر بالفعل أفضل مما تدر تصورات الميتافيزيقا التي تحتقرها وتريد أن تبطلها. ولكنها تصر على أن "العالم الخارجي" الذي يقول به أنصار الواقعية لا يزال يعتمد على التجربة الإنسانية، بيد أنهاـ يقصد الأنسنيةـ قد تتجزأ فتضيف أن معطيات التجربة الإنسانية لم تستعمل استعمالا تاما في بناء عالم خارجي واقعي
[2] تعريف أورده دي روجمون Denis de Rougemont:من تعريفات الأنسنية المهمة أيضا ذلك التعريف الذي يرى أن الإنسان ينبغي عليه من الناحية الأخلاقية أن يقصر اهتمامه على ما يدخل في النطاق الإنساني من صفات وفضائل وأعمال. وبهذا الصدد يقول الكاتب السويسري دى روجمون في كتابه "سياسة الشخصية Politique de la Personne"، المنشور عام 1934، ما نصه: " إن المذهب الإنساني ـ يقصد الأنسنية ـ يدل على نظرة عامة عن الحياة (السياسية، والاقتصادية، والخلقية)، تدور على الاعتقاد بأن خلاص الإنسان يتحقق بالجهد الإنساني وحده. وهو اعتقاد مخالف كل المخالفة للعقيدة المسيحية التي تذهب إلى أن خلاص الإنسان يتحقق بفضل من الله وحده ومن الإيمان "
[3] تعريف جاك ماريتان Jacques Maritain:دأب الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان على التأكيد، في كتاباته العديدة، على موقف الفيلسوف المسيحي من الأنسنية، وذلك باعتباره أحد أعلام التوماوية الجديدة، ومن ذلك كتابه "الأنسنية المتكاملةIntegral Humanism"، المنشور عام 1936. فقد عرف ماريتان هذا الموقف بأنه ذلك الذي يحاول أن يجعل الإنسان أنسنيا حقا، وأن يظهرنا نحن البشر على عظمته الأصيلة حين يجعله مساهما في كل ما يمكن أن يوفر ثراءه في الطبيعة وفي التاريخ. انه الموقف الذي يطلب إلى الإنسان أن ينمي الإمكانيات المنطوية فيه، وأن يذكي قواه المبتدعة وحياة العقل، ويسعى إلى أن يجعل من قوى العالم الفيزيقي أدوات وذرائع لحريته
[4] تعريف سارتر J.P.Sartre:في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شاع استعمال مصطلح "الأنسنية" في أوروبا وأمريكا شيوعا حمل الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر على وضع كتاب مهم حول طبيعة العلاقة بين الوجودية والأنسنية. فالأنسنية من وجهة نظر الفيلسوف الوجودي سارتر ترى أن الإنسان هو على الدوام خارج نفسه، ومتى جعل نفسه مشروعا ومتى أضاع نفسه خارج نفسه، استطاع أن يجعل نفسه موجودا. ومن جهة أخرى إنما يستطيع الإنسان أن يكون موجودا حين يسعى إلى أغراض متعالية، أي تتجاوزه. ولما كان الإنسان هو هذا التجاوز، ولما كان لا يتناول الموضوعات إلا بالقياس إلى هذا التجاوز، فهو حينئذ في لب التجاوز نفسه. وليس هنالك من عالم إلا العالم الإنساني، عالم الذاتية الإنسانية. فالوجودية ـ والكلام لجان بول سارتر ـ أنسنية، لأنها تذكر الإنسان بأنه ليس هنالك من تشريع إلا نفسه، وأن الإنسان، حين يبحث خارج نفسه عن غرض هو تحرر معين وتحقق خاص، إنما يحقق نفسه إنسانا
محاولات صياغة أنسنية عالمية: يعد الرواج العظيم الذي لقيه مصطلح "الأنسنية" مسئولا بشكل أو بآخر عن زيادة الاختلاف في معانيه عند مستعمليه من أصحاب الاتجاهات الفلسفية المختلفة، فضلا عن كونه مسئولا كذلك عن كثرة الاختلاط حول المصطلح، ليس في أذهان العامة فحسب، وإنما لدى كثير من الكتاب والمؤلفين أيضا. وهو ما حدا ببعض الفلاسفة والمفكرين المأخوذين بما للأنسنية من رونق وجاذبية لبذل جهود حثيثة في صياغة خصائص بعينها لما اصطلحوا على اعتباره "أنسنية عالميةWorld Humanism"، اعتقدوا في تجاوزها للاختلافات والتناقضات الواردة في التعاريف المختلفة للأنسنية، إلى جانب اعتقادهم في تمييزها للفلسفة الأنسنية عما عداها من فلسفات. وفيما يلي عرضا موجزا لأهم المحاولات المبذولة في هذا الصدد: [1] محاولة لامونت Corliss Lamont:أورد الفيلسوف الأمريكي كورليس لامونت في كتابه ذائع الصيت "الفلسفة الأنسنية The Philosophy of Humanism"، عشر خصائص، اعتبرها تجسيدا للأنسنية في أكثر أشكالها الحديثة قبولا. وأكد لامونت على ما تتيحه تلك الخصائص للأنسني من مزية نعت الأنسنية بما يحلو له من صفات، فله أن يطلق عليها الأنسنية العلمية أو العلمانية أو الطبيعية أو الديمقراطية، وذلك حسبما يتراءى له. فطبقا للفيلسوف الأمريكي، تحتفظ الأنسنية في ظل النعوت المختلفة بوجهة نظرها القائلة بأن البشر لا يملكون سوى حياة واحدة، لزاما عليهم أن ينفقوها، كلها أو معظمها على الأقل، في سلام دائم وإبداع متواصل. على أن يستندوا في ذلك إلى طاقاتهم الإنسانية الإبداعية، لا إلى قوة خارجية أو عالية على الكون. على أية حال، أوجز الأمريكي لامونت رؤيته للأنسنية العالمية في امتلاكها للخصائص التالية: 1) اعتقادها في الميتافيزيقيا الطبيعية، أو بعبارة أخرى اتخاذها موقفا تجاه الكون يعتبر كل أشكال ما فوق الطبيعة أساطير، وينظر للطبيعة على أنها جملة الموجود، فضلا عن إدراكه لها كنظام للمادة والطاقة دائم التغير، يعيش مستقلا عن أي عقل أو وعي.2) اعتقادها، مستندة في ذلك إلى القوانين والحقائق العلمية، في كون الجنس البشري نتاجا تطوريا للطبيعة، وجزءا منها في الوقت ذاته. وكذلك اعتقادها في الارتباط الوثيق بين العقل ووظائف المخ، علاوة على اعتقادها الراسخ في وحدة الجسد والشخصية، وهو ما يعني ـ من وجهة نظر لامونت ـ القول باستحالة حدوث بعث للوعي بعد الموت.3) اعتقادها، انطلاقا من إيمانها العظيم بالجنس البشري، في امتلاك البشر الإمكانية والقدرة على حل مشكلاتهم، عبر اعتمادهم الأساسي على العقل والمناهج العلمية المطبقة بشجاعة لخدمة رؤية بعينها.4) اعتقادها، وذلك على خلاف نظريات الجبر أو القضاء والقدر أو القدر السابق، أن البشر، رغم كونهم محكومين بالماضي، يملكون حرية حقيقية للاختيار والفعل الخلاق، وأنهم، رغم خضوعهم لقيود موضوعية بعينها، يملكون القدرة على صياغة مصائرهم. 5) اعتقادها في مواثيق الشرف والأخلاقيات التي تشكل الأرضية لكل القيم الإنسانية السارية في الخبرات والعلاقات الحياتية على كوكب الأرض، والتي تحفظ على الإنسان أهدافه العليا الماثلة في السعادة والحرية والتقدم الاقتصادي والثقافي والأخلاقي، بغض النظر عن الأمة أو العنصر أو الديانة التي ينتمي إليها هذا الإنسان. 6) اعتقادها أن الفرد يحقق الحياة الطيبة عبر ما يحدثه من تناغم بين تلبية المطالب الشخصية والتطور الذاتي المستمر وبين العمل المهم والنشاطات الأخرى التي تساهم في تحقيق الرفاهية للمجتمع. 7) اعتقادها في إمكانية الوصول لأبعد مدى ممكن في تطوير الفن والوعي بالجمال، بما في ذلك استحسان جمال الطبيعة وإدراك جلالها، على أمل أن تصبح الخبرات الاستاطيقية (الخاصة بعلم الجمال) واقعا سائدا في الحياة.8) اعتقادها في البرامج الاجتماعية بعيدة المدى، الرامية لإحلال الديمقراطية والسلام ومستويات المعيشة المرتفعة في شتى أنحاء المعمورة، والمستندة في ذلك إلى نظم اقتصادية منتعشة على الصعيدين الوطني والدولي.9) اعتقادها في الإعمال الاجتماعي الكامل للعقل والمناهج العلمية، وكذا اعتقادها في التدابير الديمقراطية والحكم البرلماني، الكافل لحرية التعبير والحريات المدنية، في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. 10) اعتقادها، متمشية في ذلك مع المناهج العلمية، في حتمية الطرح السرمدي للتساؤلات حول الافتراضات والقناعات الأساسية، بما في ذلك الافتراضات والقناعات المرتبطة بالأنسنية ذاتها. لكونها ليست دوجما Dogma (حكما لا يقبل الشك)، وإنما فلسفة متطورة، منفتحة على تذوق الخبرات والاكتشافات الجديدة والاستدلالات الأكثر دقة.[2] محاولة الاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي IHEU:وافق الآباء المؤسسون للاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي International Humanist and Ethical Union، في مؤتمرهم الأول بهولندا عام 1952، على ما اعتبروه بيانا بالمبادئ الأساسية للأنسنية العالمية. غير أن المؤتمر العالمي للاتحاد الدولي، والمنعقد بهولندا عام 2002، أي بعد مرور خمسين عاما على انعقاد المؤتمر الأول، تعهد بالتحديث بيان المؤتمر الأول، المعروف باسم "إعلان أمستردام Amsterdam Declaration"، واعتبره تعريفا رسميا لخصائص الأنسنية الحديثة، تمييزا لها عن غيرها من الفلسفات. وعليه أضحى " إعلان أمستردام معروفا باسم "إعلان أمستردام 2002 Amsterdam Declaration 2002 "، وأضحت المبادئ الواردة به والتالي عرضها تجسيدا فعليا لرؤية الاتحاد الدولي لخصائص الأنسنية العالمية:1) الأنسنية أخلاقية، فهي تؤكد قيمة وكرامة واستقلالية الفرد، علاوة على تأكيدها لحقه في التمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية، بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين. فالأنسنيون يهتمون بالبشر كافة، بما في ذلك الأجيال القادمة، ويؤمنون بأن الأخلاق جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وأنها تقوم على التفاهم مع الآخرين والاهتمام بهم، ولا تتطلب قوة خارجية لفرضها.2) الأنسنية عقلانية، فهي ترمى للتوظيف الخلاق وليس الهدام للعلم. فالأنسنيون يعتقدون في أن حل مشاكل العالم سبيله الفكر والفعل البشريين وليس تدخل القوى العالية عن الكون. والأنسنية تدافع عن الأخذ بالمناهج العلمية في حل المشكلات الإنسانية، بما لا يتعارض مع القيم الإنسانية ذاتها، فهي التي تساعد الإنسان على تحديد الغايات التي يعد العلم وسيلة لبلوغها. 3) الأنسنية تساند الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهدفها بلوغ الكائن البشري أقصى قدر ممكن من التطور. إنها تعتبر الديمقراطية والتنمية البشرية حقا طبيعيا لذلك الكائن. فطبقا للأنسنية، تهيمن المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان على العلاقات الإنسانية، فلا يترك قرار الأخذ بهما أو تركهما للحكومات والأنظمة، أيا كانت طبيعتها، لكونهما حقا إنسانيا. 4) الأنسنية تصر على ضرورة تناغم الحريات الشخصية مع المسئولية الاجتماعية. أو بعبارة أخرى، تؤكد الأنسنية على ضرورة بناء عالم يكون فيه الشخص الحر مسئولا أمام المجتمع، كما أنها تعترف باعتماد الإنسان على الطبيعة وكذا تعترف بمسئوليته تجاهها. والأنسنية ليست دوجماطيقية، فهي لا تفرض عقيدة بعينها على الأنسنيين، وتطالب بحق الإنسان في التعليم الحر. 5) الأنسنية تؤكد على إيمانها بعدم مشروعية إجبار الإنسان على اعتناق ديانة بعينها، وكذا عدم مشروعية السعي لفرض الاعتناق القسري لبعض الديانات الرئيسية في العالم على الآخرين، استنادا لكونها صالحة لكل زمان ومكان. فالأنسنية تعترف بحق الإنسان في التدبر والتقييم والاختيار الحر لعقيدته، أيا كانت تللك العقيدة. 6) الأنسنية تثمن الخيال والإبداع الفني، وتعترف بدور الفنون والآداب في تطوير الملكات الخلاقة. فهي تؤمن بارتباط الفنون على اختلافها وتنوعها بما يحرزه الإنسان من تطور وتقدم في مناحي الحياة المختلفة. 7) الأنسنية تعد موقفا حياتيا يرمى لتمكين صاحبه من تحقيق أقصى قدر ممكن من الآمال والطموحات، فضلا عن تزويد الأنسنية معتنقيها بالأدوات الأخلاقية والعقلانية اللازمة للتعاطي الكفء مع الحياة، في كل زمان ومكان
والآن، أما وقد عرضنا محاولتي لامونت والاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي لصياغة أنسنية عالمية، تتميز عما عداها من فلسفات، وتتجاوز خصائصها الاختلافات الواردة في التعاريف الفلسفية المتعددة للأنسنية، يتبقى لنا أن نشير لوجود قدر غير قليل من التشابه الجوهري بين المحاولتين. فكلتاهما تؤكدان على ارتباط الأنسنية بتثمين العقل البشري، وتريان في المواثيق الأخلاقية رافدا مهما لها. إضافة إلى تأكيد المحاولتين على ارتباط الأنسنية بالتناغم بين الحريات الشخصية والمسئوليات الاجتماعية، وكذا ارتباطها بالاحترام الكامل للمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتظل المحاولتان المذكورتان، والمحاولات الأخرى المماثلة، دليلا حيا على عمق وجدية الرغبة الإنسانية في صياغة أنسنية عالمية، تصبح الأرض في ظلها مقاما جميلا طيبا
النهج الأنسني المنشود
أراني بت قانعا، بعد تجوالي وقارئي الكريم في أروقة الأنسنية، أنها نهج يحترم الإنسان وينزله المنزلة اللائقة به، فجوهرها ـ طبقا للمتعارف عليه ـ هو التعريف بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها هو التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. ففي رحاب الأنسنية لا يوجد سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب، ولا يوجد كذلك تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات
وبعبارة أخرى، تنسف الأنسنية جذريا الأطروحة القائلة بان تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حتما مع التجديد المستمر للمعطيات المعاصرة. وإذا اتخذنا التاريخ كمثال، نجد أن الأنسنيين يرونه مسارا غير محسوم، قيد التكوين، لا يزال مفتوحا على حضور الناشئ والمتمرد وغير المستكشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات. كما أنهم يرون أن الإنسان هو صانع التاريخ، ومن ثم فهو قادر على اكتناهه عقليا، وفق المبدأ القائل بأننا كبشر ندرك فقط ما نحن صانعوه، أو بالأحرى، نراه من وجهة نظر الإنسان الصانع، فأن تعرف شيئا ما يعني أن تعرف الكيفية التي بها صنع ذلك الشيء
وطبقا لإدوارد سعيد، ليست الأنسنية طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلمة، معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها برقائق المحرمات الثقافية. فثمة صعوبة في القول بان عالمنا الفكري والثقافي كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء، فالأرجح انه تنافر مضطرب من المدونات غير المحسومة
ولكل حضارة أن تلبي روحها هذا النهج الأنسني المنشود. ولهذا علينا أن نلتمسه في الحضارات المختلفة، فخصائصه العامة تكاد تكون واحدة بين جميع الحضارات
[1] الخاصية الأولى: معيار التقويم هو الإنسان أول ما تمتاز به الأنسنية هي أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، عبر ما يمليه حسه الإنساني من قوانين، وهو قول يجب أن يفهم في سياقه الأنسني الحقيقي، لا بالمعنى المبتذل والفاسد الذي يضاف إليه عادة عند تجار الآلام، فهم يدعون أنه لا أنسنية بدون وضع الإنسان في مقابل الإله، ناسين أو متناسين أن الإنسان ـ في أكثر الآراء شيوعا ـ هو وجه الإله على الأرض وأنه ما انتقل من دور البربرية والوحشية إلى دور التحضر والمدنية إلا عن طريق القوانين. بيد أن هذه القوانين ليست قوانين مفروضة من الخارج، وإلا لكان في ذلك قضاء مبرما على الفردية، إنما هذه القوانين ـ كما أسلفنا ـ هي ما يمليه الحس الإنساني العام. ففيها إذن تتمثل الفردية، من ناحية، على أساس أن العقل الإنساني هو الذي يشرعها أو أن الناس هم الذين شرعوها، ومن ناحية أخرى يتمثل فيها شئ من كبح جماح الفردية، لأن هذه القوانين يجب أن يخضع لها الجميع. وبعبارة أخرى، لا يعد القول بكون معيار التقويم هو الإنسان تأليها للإنسان، فليس في الأنسنية تأليه لإنسان وإعجاب به وحماس له إلى حد جعله الكائن الأوحد والسيد المطلق. وإنما فيها الانتصار لذلك الكائن النبيل والحيلولة دون سعي تجار الآلام لاسترقاقه وتصييره دابة تعلف في زريبة الآخر، وأقصد بالآخر هنا كل من يعمد لتعمية الذات، أيا كانت هويتها أو انتمائها، عن الأنسنية
[2] الخاصية الثانية: الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمةذكرنا آنفا أن أول ما تمتاز به الأنسنية هي أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، والسؤال الذي يطرح نفسه.. كيف للإنسان أن يضطلع بتلك المهمة الشاقة والعسيرة؟! لعمري انه العقل.. ذلك القبس الإلهي ـ طبقا لهيجل Hegel ـ الذي يسكن أجساد البشر! إن ثورته الدائمة سبيلهم المتاح لتطوير الحياة وإدراك الحقيقة
أقول الحقيقة ولا أقول الحقيقة المطلقة، فهي محجوبة وهيهات للعقل البشري أن يدركها وان تصور خلاف ذلك، إذ أن الإنسان لا يملك حيالها سوى أن يرخي جفنه ويركن إلى هذا الجانب أو ذاك. لذا، تصر الأنسنية على أن تضع موضع الاعتبار كل ما في العقول الفردية من خصب وثراء وثورة بدلا من محاولة ضغطها جميعا في طراز واحد من "العقل" يقال عنه أنه واحد لا يتغير. والأنسنية كذلك تحسب حسابا للثروة النفسية لكل عقل إنساني، وتعنى بوفرة اهتماماته وعواطفه ونزعاته ومطامحه. ولا شك أنها بعنايتها هذه تضحي بكثير من البساطة المضللة التي تبدو في الصيغ المجردة، ولكنها تقدر وتوضح جمعا غفيرا مما أغفله الناس فيما مضى ونظروا إليه على أنه وقائع غير مفهومة.. على أية حال، تظل الإشادة بالعقل ورد تطور حياة الإنسان إلى ثورته الدائمة إحدى الخصائص المهمة للأنسنية. وثورة العقل تعني أنه لم يعد قوة محافظة، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل الثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. حتى أن الأنسني مطالب بأن يضمر عداء أبديا لكل صورة من صور الطغيان أو السيطرة على عقل الإنسان، ليتسنى لنا معشر البشر ردع تجار الآلام وحرمانهم من المتاجرة بآلامنا
[3] الخاصية الثالثة: تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معهامادمنا قد استخلصنا مكانة الإنسان في الأنسنية، بجعلها إياه معيار التقويم وإشادتها بعقله ورد التطور إلى ثورته الدائمة، فقد بقي علينا أن نقوم بحركة مد وعود إلى الخارج، لا لكي يفنى فيه الإنسان من جديد، بل ليؤكد نفسه فيه ويفرضها عليه. والإنسان في هذا الاتجاه إلى الطبيعة يخضع لعامل غزو الذات للموضوع بفرضها قيمها عليه واستخدامه كأداة لتحقيق إمكانياتها، بوصفه عالم أدوات. ومن هنا كانت الخاصية الثالثة للأنسنية هي تثمين الطبيعة والتعاطي معها بتحضر ورقي. غير أنه علينا أن نفهم جيدا الفارق بين هذا الاحترام الأنسني للطبيعة، وبين عبادة الطبيعة عند الشعوب البدائية. فتثمين الأنسني للطبيعة وتعاطيه المتحضر والراقي معها إنما ينبع من اعتقاده الراسخ بكونها منحة سخية، فضلا عن كونها ضرورة ملحة لإدامة الوجود الإنساني، أما الشعوب البدائية فتذهب في تعاطيها مع الطبيعة إلى تأليهها، رهبة وخوفا من جبروتها، وشتان ما بين الأمرين
[4] الخاصية الرابعة: القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه رغم وجاهة القول بأنه لا يمكن التقدم بالإنسان حتى يصل إلى درجة الكمال وحتى تختفي الآثام والآلام من وجه الأرض، إلا أنه يناط بالأنسني الاعتقاد بأنه يمكن للإنسان أن يتقدم كثيرا، وأن ذلك إنما يتم بالإنسان نفسه وقواه الخاصة، لا بقوة خارجية أو عالية على الكون، ففي هذا أكبر تأكيد لجانب العقل والنشاط والتحقيق الخارجي في الذات الإنسانية. وليس ثمة تعارض كما قد يبدو للوهلة الأولى، فإثابة المجتهد على اجتهاده سنة كونية، حق علينا ـ معشر البشر ـ الانصياع لها. غير أن تجار الآلام، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، يحلو لهم محاجة القول بقدرة الإنسان على إحراز التقدم استنادا لقواه الخاصة، عبر المزايدة على تلك السنة الكونية، وذلك بزعمهم أن التقدم إنما يتم حتما بقوة خارجية وليس بقوى الإنسان الخاصة، وهو أمر تعوزه الصحة ويتعارض مع المنطق السليم. إذ أن الإنسان ـ كما أسلفنا ـ هو في أكثر الآراء شيوعا وجه الإله على الأرض، منحه خالقه قبسا إلهيا هو العقل، كي يضرب به في مجاهل الحياة، ويحفظ به عليه وجوده. وأراني لا أتجاوز الحقيقة حين أقرر بضمير مطمئن أن حاكمية الإنسان لا تعدو في جوهرها كونها التزاما صارما بما يطلق عليه الحاكمية الإلهية. فنحن معشر البشر محكومون حكما غير مباشر عبر عقولنا التي منحنا إياها، والتي لولاها لهلكنا أو على الأقل ظللنا نضرب في مجاهل الحياة على غير هدى
[5] الخاصية الخامسة: تأكيد النزعة الحسية الجمالية إن العقل الذي تشيد الأنسنية به وترد التطور إلى ثورته الدائمة ليس ذلك العقل الجاف المجرد التفكير الذي يشبه آلة تنتج تصورات شاحبة غادرتها الحياة، مثل العقل الاسكلائي التائه في بيداء الديالكتيك الأجوف والأقيسة العقيمة، بل هو الوعي الكامل للذات الإنسانية في مواجهتها للموضوعات الخارجية، وهو لهذا يواكب العاطفة ولا يعاديها، ويتكئ على الحس العيني الحي. ولهذا تمتاز تلك النزعة بخاصية خامسة هي النزعة الحسية الجمالية التي تميل إلى الرجوع إلى العاطفة واستلهامها إدراك الوجود في بعض أنحائه. واغلب الظن أن الحديث عن هذه الخاصية لا يتحمل مزيد من التفسير والشرح، وإلا كنا ندفع أبوابا مفتوحة على مصاريعها
وفى الختام، يطيب لي أن أؤكد أننا معشر الأنسنيين المتوثبين في هذه المنطقة المضطربة من العالم، منوط بنا الاسترشاد بالخصائص المذكورة سلفا لإيجاد نهج أنسني جديد، كنا ولا نزال حيارى في معرفة الطريق إليه، نلتقي عبره بالأنسنيين في شتى بقاع المعمورة. فالحق الذي لا مراء فيه أنه ليس سوى الأنسنية من نهج واعد ومبشر، يناط به الاستحواذ على المكانة اللائقة به في المستقبل، داخل عالمنا العربي وخارجه. بيد أن الشفافية تقتضي من الكاتب لفت الانتباه إلى الأسلاك الشائكة والألغام المزروعة على جانبي الطريق، فتجار الآلام في سلوكهم تجاه الأنسنيين ليس يحدوهم سوى الحقد الأسود، بوصفهم ـ أقصد الأنسنيين ـ التهديد الحقيقي لتجارتهم القذرة، وكذا بوصفهم البديل الوحيد المؤهل لإقامة مملكة السلام على الأرض، وكيف لا؟! وإيمان الأنسنيين المتأجج بالرفقة الإنسانية الصحيحة ليس يبزه في عذوبته سوى كلمات صوفية ناجى بها جبران خليل جبران أخيه الإنسان قائلا: " (أيها الإنسان) أنت أخي.. وأنت مماثلي لأننا سجينا جسدين جبلا من طينة واحدة. وأنت رفيقي على طريق الحياة ومسعفي في إدراك كنه الحقيقة المستترة وراء الغيوم. أنت إنسان وقد أحببتك وأحبك يا أخي ". ألا ما أعذبها من كلمات وما أرقها من مناجاة
قارئي العزيز، أراني ما ذكرت الرفقة الإنسانية الصحيحة إلا لأقطع الطريق على تجار الآلام في زعمهم الباطل باستحالة النهج الأنسني، فتلك الرفقة تسمح لكل عقيدة من العقائد باتخاذ موقفها ومنبرها في هيكل الوجود الجميل، شريطة ألا يدعى أنصار هذه العقيدة أو تلك امتلاك الحقيقة المطلقة، فأقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء تلك الحقيقة المطلقة هو إعمال عقله في نشدانها، لا امتلاكها. وكيف لا؟! والبائن أنه قد حيل بينه وبين إدراكها بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه سوى الموت
وعليه فلا يحق له فرض رأيه إزائها على رفاقه في رحلة الحياة، وكل ما يملكه إزائها هو الوثوق بما يفضي إليه به قلبه