الدعوة إلى ترسيخ القيم قبل المطالبة بالحقوق
26/04/2010
استدراك: نتطرق إلى موضوع " ترسيخ القيم قبل المطالبة بالحقوق " باختصار في مقالنا هذا و الذي كان من المؤمل المشاركة به كورقة عمل في مؤتمر الشرائع السماوية و حقوق الإنسان الذي انعقد مؤخرا في مملكة البحرين .لن نختلف مع أحد حول أهمية وجود و تطبيق و حماية الحقوق التي جاء بهما العهدان الدوليان و ملحقيهما و ما لذلك من أثر على حفظ كرامة الإنسان و تنشيط تفاعل الإنسان مع مجتمعه مما يحقق الفائدة في تحريك أسباب التنمية الاجتماعية و الاقتصادية .. فحيث وجد المجتمع المتمتع بحقوقه , وجدت التنمية و الحضارات المتطورة .
و السؤال الذي نبحث عن إجابة محددة له , هل للقيم تأثير و دور على ممارسة و تطبيق الحقوق ؟ في محاولة لبيان مدى اعتبار وجود القيم أو عدمها كشرط لتحقيق نتائج ايجابية للفرد و للمجتمع من تملك و تطبيق و ممارسة الحقوق .
أم أن لموضوع القيم حديث أخر و منحى أخر بعيد كل البعد عن مفهوم الحقوق و تطبيقاتها العملية .
و في مثال عملي على تساؤلنا, فإننا نحاول الإجابة على سبب نجاح حركة الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو المدنية أو الاجتماعية في دولة نفترض أنها نموذجية مثل تركيا و عدم نجاحها في دولة مثل العراق . و هل للقيم علاقة بذلك النجاح و الفشل و ما هي حدود هذه العلاقة ؟
و هل الإجابة ستكون معممة على جميع المجتمعات العربية , منوهين بان الترميز إلى دولتي تركيا و العراق إنما بسبب النجاح اللافت للنظر لحركة الحقوق في تركيا من جهة و لفشلها في العراق من جهة ثانية .
بادئ ذي بدء لا اعتقد أن خلافا سيطرح حول أهمية القيم الإنسانية في أن تكون حية و متواجدة مع ذات الإنسان أينما كان و متى وجد, فالقيم هي مجموعة الأخلاق الحميدة و الصفات المحمودة المكتسبة من العادات و التقاليد و من التربية المدرسية و بالطبع لن اغفل هنا دور الأسرة في غرس الصفات الحميدة و الأخلاق العالية و من منا لا يحب أن يكون متسما بقيم عالية له كل الحق بالتفاخر بها لأنه يفتخر بمدرسة و بعلم و بأسرة ينتمي إليها . و لن اغفل أيضا دور أماكن العبادة في تنمية و صقل القيم الحميدة و الحث عليها على اعتبار أن الشرائع السماوية بدون استثناء اعتبرت أن الأخلاق و الصفات الحميدة من أسس الإيمان .
و القيم الإنسانية تشكل جسما داخليا و لا يهمنا هنا إن كان متمثلا بالروح أو النفس أو العقل فالغرض واحد هنا ألا و هو ذلك الجسم الداخلي أو الروح المتمثل بالضمير فمتى كانت القيم عالية و نامية داخل الذات الإنسانية , كان الضمير يقظا و محذرا و مرشدا و العكس صحيح هنا
و بذلك يكون الإنسان مسئولا و مقدرا و واعيا عن تصرفاته و سلوكه و إن اختلف مقدار الوعي و المسئولية من شخص لأخر حسب تفاوت درجة القيم لديه .
فلو أعطينا أنسانا يمتلك قيما عالية ممثلة بوعي و حسن تدبر و مسئولية أيا من الحقوق كحق التعبير السياسي أو تأسيس الجمعيات أو المشاركة في التجمعات السلمية فكيف سيكون سلوك هذا الإنسان صاحب القيم حين استخدامه للحق ؟
اعتقد يقينا أن صاحب القيم سيقوم باستخدام حق التعبير السياسي بدون قذف و شتم للآخرين و بدون تهميش و ازدراء, كونه تعلم من مدرسته و أسرته و مكان عبادته كيف يستمع للآخرين و كيف يحترم رأيهم و كيف يكون قدوة و مثالا يحتذ به , و الأهم من ذلك انه يؤمن بان الآخرين بشر لهم الحق في معارضته و في الحياة مثله و إن اختلف معهم بالرأي .
و كذلك تقاس الأمور في حال استخدم حقه في تأسيس الجمعيات أو في المشاركة في التجمعات فلا اعتقد انه سيقوم بأي حال من الأحوال بتأسيس ميليشيات مسلحة أو للمشاركة في تجمعات تقوم بتكسير واجهات المحال أو الاعتداء على ممتلكات الآخرين .
و على النقيض من ذلك لو افترضنا أن إنسانا لا يمتلك قيم عالية أو متدنية فكيف سيكون السلوك و النتائج و باعتقادي الشخصي أن العراق و اغلب دولنا العربية التي حصلت فيها نتائج سلبية كالقتل و التهجير والاقتتال الداخلي و عدم الاستقرار الأمني و الاجتماعي لم يكن ذلك ليحدث لولا وجود القيم و إن عدم وجود القيم هو سبب إساءة استعمال الحقوق .
و الغريب في أمر الدول العربية و مجتمعاتها - و هنا نفترض جزما لا شكا - أنها تمتلك جميعها قيما مغيبة مستمدة من تعاليم الإسلام و البيئة الجغرافية و التي يفترض أن تظهر قيم الحماية و الأمن و الاستقرار و العدالة و المساواة على مجتمعات و دول المنطقة العربية جليا و واضحة كقرص الشمس .
و لكن تغييب القيم بتغييب المصدر الروحي لها ألا و هو تطبيق الشرائع السماوية السمحة من جهة و التي تعتبر بدورها المصدر الرئيسي لمد الأسرة و المجتمع بالقيم و مع عدم إيجاد مصادر بديلة لهذا المصدر الغزير بالقيم من جهة ثانية أصبح لدينا و للأسف في مجتمعاتنا العربية أزمة قيم مما ولد أزمة إساءة لاستعمال الحقوق .
و أمام عدم وجود المصدر الرئيسي للقيم الممثل بثالوث الدين – الأسرة – المدرسة تاهت مجتمعاتنا العربية في بحر من رمال بدون وجود قيم , تتنفس بأنفاس أخيرة من القيم المستمدة من العادات و التقاليد و التي لم يعد حتى جزء كبير يصلح منها مع تطور الحياة المدنية , و هذا ما جعل مجتمعاتنا العربية تستخدم حق التعبير السياسي على سبيل المثال بطريقة خاطئة و كذلك إساءتها عند استخدام أي حق أخر و هذا هو السبب الرئيسي برأينا لتدهور أوضاع مجتمعاتنا و عدم جدوى منح الحقوق و الحريات بدون رقابة و تنظيم لان الدولة يفترض بها أن تحل هنا مؤقتا محل القيم المغيبة , و أتأسف كل الأسف للإقرار بذلك مع إني من اشد الحالمين بسقف لا حد له من الحقوق و الحريات لمنطقتي و بدون أي رقابة أو منحة حكومية , و لكني لن أتمنى لها السوء بذلك الحلم , فتجارب المنطقة العربية بدون استثناء من عراقها إلى جزائرها و من لبنانها إلى سودانها لهي خير شاهد و خير دليل على ذلك ,و لن نكون بأي حال من الأحوال هنا في الأردن أفضل من باقي المجتمعات العربية و نقول بأننا نمتلك نسبة عالية من المثقفين فالعبرة هنا ليس التطرق حول موضوع من يستطيع إجادة القراءة و الكتابة و إنما حول الوعي بحسن التدبر و التصرف في مسالة خطيرة و هامة تمس امن المجتمع ككل .
و في محاولة للخروج من وسط أمواج الاضطراب الذي اغرق اغلب مجتمعاتنا العربية فانه لا بد لنا من إعادة تفعيل المصدر الروحي – و هنا نتحدث عن مجموعة الشرائع السماوية قاطبة – و الذي ثبت بالتجربة و الواقع عدم نجاح الدول العربية في تجربة تطبيق الحقوق بعيدا عن القيم حتى أن المجتمعات العربية تعتبر تائهة بدون القيم منذ انهيار الخلافة العباسية قبل ألف عام
و حسنا فعل الأردن بإطلاقه رسالة عمان الإسلامية و التي و إن كان الهدف منها تعريف العالم بمعنى و رسالة الإسلام السمحاء إلا أنها تعتبر محاولة لإعادة إحياء الموروث الديني بما يحتويه من قيم و صفات حميدة.
و قبل فترة قصيرة عقد واحد من المؤتمرات العالمية الهامة في مملكة البحرين تحت عنوان " مؤتمر الشرائع السماوية و حقوق الإنسان " و لم نتمكن آسفين من حضوره لعدم تمكننا من إعداد ورقة العمل لضيق الوقت , و هدف هذا المؤتمر إلى تحقيق غايتين رئيسيتين :
أما الأول فهو لإبراز دور الشرائع السماوية كمصدر روحي للقيم و بالتالي كمصدر لحقوق الإنسان و العمل على حمايتها . و الهدف الثاني في محاولة لإظهار الإنسان المسلم النموذجي و الذي يعيش في عصر العولمة المتطور مدنيا و ثقافيا .
و الحاجة أصبحت ملحة الآن و قبل أي وقت مضى لإعادة تفعيل قيم المجتمع العربي الذي أصبح فقيرا رغم غناه بالموارد و أصبح محتلا رغم مناعة حدوده و أصبح ضعيفا رغم امتلاكه القوة و أصبح جاهلا رغم وجود العلم و أصبح تائها رغم وجود الدول و أصبح مطلوبا رغم انه مظلوم و أصبح منبوذا رغم الافتراء و أصبح إرهابيا رغم انه المعتدى عليه ... فالي متى الهوان بمسالة القيم و الانصراف إلى المطالبة بحركة الحقوق التي لن نستفيد منها كمجتمعات و ستحولنا إلى أعداء فيما بيننا .
إن الانتظار لحين تطبيق أو عدم تطبيق الموروث الديني الغني بالقيم الصالحة لن يكون مانعا من الاسترشاد بتربية حقوق الإنسان و البدء بها تلقينا منذ الصغر في مدارسنا بالإضافة إلى رقابة القانون النموذجي الذي يكافح التمييز بكل أشكاله و المدعم بسلطة تنفيذية و الذي يمنع أي خرق لمبادئ المساواة و العدل .
كما أن للأنظمة التعليمية دور رئيسي و هام في غرس القيم الصالحة حيث يقضي الفرد اغلب فترة شبابه مرتبطا بالنظام التعليمي الذي يمده بغذاء العقل من معرفة و علوم و ثقافة و حبذا لو أضيف إلى غذائه الروحي جرعات من ثقافة و تربية حقوق الإنسان .
و المحافظة على العادات و التقاليد مهمة جدا و إن كان وجودها و مدى تأثيرها يختلف من مجتمع مدني إلى مجتمع ريفي و من دولة إلى دولة إلا أنها ما زالت تعتبر من المصادر الرئيسية للقيم .
و يجب أن لا تغفل مجتمعاتنا العربية أهمية القيم , و المسالة هنا ليست متعلقة ببناء مجتمع فاضل بقدر ما هي متعلقة بضمان استعمال امثل للحقوق حتى تكون بمنأى عن أي فتنة و انحلال و تدهور .
و ليكن بعلم مجتمعاتنا العربية أن الأب الروحي للقانون الدولي الحديث الهولندي جورسيوس و الذي عاش لأكثر من عشر سنوات في مدينة اسطنبول خلال القرن السابع عشر أولى عناية كبيرة و اهتمام بالغ في الثقافة و القيم الإسلامية حتى استطاع أن يقدم للعالم كتابه " في قانون الحرب و السلم " و الذي استمد اغلب فقهه من القيم الإسلامية المبنية على العدالة و المساواة و التسامح و الاحترام .