لعل توصيفه لواقع مشهد الحضيض الذي وصلنا إليه و أردننا الحبيب و بشكل أقرب الى
الكمال هو ما يجعلني بين الحين و الأخر إلى إستعمال مضمون عنوان مقالة سابقة
للدكتور محمد الحباشنة - مُنع على أثرها من النشر في وقت يسمح فيه لمروجي العنصرية
امثال ناهض حتر من النشر ! - في ما اكتب
احيانا عن بعض قضايا الفساد عندما ارغب بالبحث عن شماعة أعلق عليها تصرفات مسئولينا
و دوائرنا الحكومية .
و اكتب اليوم حول واقعة حقيقية حصلت معي صباحاً في المكتبة الوطنية و كم
كنت فرحاً و انا أنتظر بدء الدوام الرسمي لموظفي المكتبة منتظرا ساعة الصفر لبدء عملهم في تمام الساعة
الثامنة و نصف صباحا , حيث قمت بزيارة المكتبة الوطنية لغاية تسجيل عمل خاص لي و
الحصول على رقم إداع .
طلبت مني موظفة الإيداع ان اقابل مدير المكتبة الوطنية لكون هذا العمل يتطرق الى العائلة المالكة من
جانب ( صورة جميلة فقط ) و إلى العلم الأردني من جانب أخر ( صورة جميلة ايضاً فقط
) .
أخذت الأمور ببساطة و بصدر رحب لكوني لا اعترض على وجود لوائح تنظيمية او
اي إجراء من شأنه ان ينظّم معاملاتنا و أمور حياتنا اليومية و لا اعتقد ايضاً انه يوجد إنسان عاقل في هذه الحياة يرفض مبدأ التنظيم .
بالفعل ذهبت لمقابلة مدير المكتبة الوطنية في الطابق الخامس من المبنى,
بدون اي عناء يذكر , لم اشك في ان كل قطعة او حتى قلم موجود على سطح
مكتبه في مكتبه الواسع و الجميل قد دُفعنا ثمن ذلك من جيوبنا كمواطنين , لقاء ان
نفخر بهذا الشاهد الضخم و العظيم الذي يؤرخ و يؤرشف تاريخنا و انجازاتنا و نهضتنا
.
و بادر المدير الى القول لي باني قد استعملت صورة العلم الأردني في العمل
المقدم و يجب الرجوع إلى قانون العلم
لمراجعته , ناهيك عن استعمال صورة لجلالة الملك و الملكة على العمل و اضاف مدير المكتبة بأن هذا الأمر يتطلب الرجوع
إلى لجنة خاصة برئاسة رئيس الوزراء ؟!
سألت المدير و هل استعمالي لصورة العلم و لصورة جلالته فيه اي انتقاص من
قيمة العلم او قيمة جلالته ؟
و هل لاحظت وجود اي تعديل على صورة العلم مثلا او صورة جلالته حتى تطلب
مراجعة قانون العلم و مراجعة لجنة خاصة برئاسة رئيس الوزراء ؟!
و كم سيأخذ ذلك من وقت ؟ و هل ستؤخر البيروقراطية تسجيل هذا العمل؟
ثم قلت للمدير أنه بإمكاني ان أزيل صورتي العلم و صورة جلالة الملك عن
العمل و اتفادى هذا الاجراء الروتيني المطوًل و المعقّد و لكن هذا العمل سيفقد من
قيمته المعنوية كثيرا خصوصا ان الغاية من العمل ان يترك انطباعاً مميزاً عن الاردن
لدى غير الاردنيين فكيف سيمكنني تقديم هذا العمل بدون صورة علم يمت للبلد او صورة
ملك للبلاد ؟!
و عندما وصلت الى قناعة بعدم
امكانية القفز فوق هذا الاجراء البيروقراطي او حتى الالتفاف عليه طلبت من مدير
المكتبة ان يتفضل مشكورا بإعادة العمل لي لكوني لا ارغب بايداعه لدى المكتبة
الوطنية و قبل ان اهم بمغادرة مكتبه سألت مدير المكتبة بطريقة مؤدبة ... هل كنت ستطلب
تحويل هذا العمل الى لجنة فيما لو كنت قد استبدلت صورة الملك مثلا بعبارة "
محمد رسول الله , صلى الله عليه و سلم " فأجابني بأدب و إحترام ... طبعا لا
... و لكن تعرف ان القانون واجب التطبيق و هكذا هي التعليمات .
تأسفت للمدير مما أسمع و أرى من قوى شد عكسية تحاول أن تضفي على حياتنا و
اسلوب معيشتنا و طرق تفكيرنا نوع من الرق الفكري و التبعية المبطنة الكاذبة و الحب
القسري لجلالة الملك و للعلم و قس على ذلك من مفاهيم الانتماء و الولاء و الوطنية
التي صنع لكل واحدة منها هالة مقدسة ممنوع الاقتراب منها حتى ولو بالشيء الجيد ؟!
و بعيد مغادرتي لمكتب المدير لحق بي موظف اخر كان حاضرا و شاهدا على هذا
اللقاء - لا اريد ذكر وظيفته لعدم التسبب له بأي إحراج , و بادرني بالقول ... لا تاخذ الامور على محمل
الجد هكذا ... انشر و اطبع عملك دون الحاجة لرقم الإيداع ... ما شاهدته قبل قليل
ليس إلا مجرد روتين و انت تعرف ذلك !
بادرته بالقول ... انا اعرف تماما انني لست بحاجة لاذن من المكتبة الوطنية
لنشر اي مادة و لكن سبب زيارتي هو لتسجيل ذلك العمل ليس إلا ...!
خرجت من مبنى المكتبة الوطنية و انا متأسف مما شاهدت و سمعت , متأملا
المشهد العام لإرادتنا المسلوبة في حق التعبير و التي ولدت معنا منذ خلق البشرية و
حتى قبل ولادة الدول بمفهومها السيادي .
تأسفت على ما وصلنا إليه من حضيض فكري يشعل فتيل أزمة و ثقة بين المواطن و
بين فكر الحكومة الذي يقوم على قوانيين باليه لم تعد تصلح لوقتنا هذا و لفكرنا هذا
و لريتنا هذه .
بت اتأسف على كلام معسول نسمعه مساء عن تمكين ديمقراطي هنا و رؤية لمستقبل
افضل هناك و نصبح على سماع ما يناقض ذلك جملة و تفصيلا .
لسان حالي و حال الكثيرين من المواطنين بات يتأسف على ما وصل إليه الأردن من تراجع في
الكثير من الحقوق و استفحال للفساد و البيروقراطية و الترهل في الاداء الحكومي و
من فجوة ثقة مقلقة للجميع تتسع فجوتها بين المواطن و الحكومة ...
لله درك يا أردن نعمل لخدمتك و رفعتك دون أجر او مقابل و في المقابل نشاهد
و نرى من يتقاضى أجرا على خدمتك يسعى لهدم ما تصنع ايدينا كمواطنيين .
هو ذلك يا صاحب الجلالة تتحدث عن تمكين ديمقراطي في وقت يطبق المسئولين لديك
سياسة التكتيم الديمقراطي.
و تنادي بمستقبل دولة مدنية ديمقراطية مشرق بينما يسعى مسئوليك لبناء دولة
متخلفة و بعيدة كل البعد عن المدنية .
لن نعيش في جلباب صنعه لنا الأخرون يطلبون منا ان نتخذك إلهاً لا يُتطرق
لذكره .
لن نعيش بدون حرية تعبير و قد منحنا إياها الخالق بصرختنا الاولى و نحن
نخرج من أرحام امهاتنا .