تستخدم دولتنا الموقرة من حين لأخر سياسة الإختراق و المشاغلة بالشيء , معتمدة على عاملي الظرف و الحاجة المواتية , كدرع واقٍ لها ضد أي مشروع لا تعتبره مشروع إصلاحي أو تنموي , من منطلق قناعتها بأن الوصايا على ذلك المجتمع و غن بلغ سن الرشد, مستمرة لأنه ما زال قاصراً بنظرها , كيف لا , و قد كانت تطلق عليه يوماً ما بأنه الأكثر طاعةً لحكوماته خلال القرن المنصرم .
و من ذلك ما نرى حالياً من مشاغلة لأحزابنا السياسية حول تفاصيل قانون الأحزاب المثير للجدل حقاً , و الذي أثار حفيظة 99% من أحزابنا السياسية و الذي لا يقدم و لا يؤخر حسب رأي أحد أمناء الاحزاب السياسية في ظل استمرار غياب قانون إنتخاب ذي أولوية و أكثر أهمية من قانون الأحزاب لانه مفتاح الإصلاح السياسي .
حقيقةً , لا تهمنا تفاصيل قانون الأحزاب المنوي تقديمه إلى مجلس النواب قريباً , مفترضين أنه حتى لو جاء على قناعة و موافقة جميع الاحزاب و خلا من الصفة الامنية و من العقوبات المكررة و أُعتمدت مرجعية مستقلة كما تطالب الاحزاب و زيد عدد المؤسسين أم نقُص .... فماذا سيتغير على المشهد الحزبي لدينا في الأردن ؟!
فكل تلك التفاصيل لا قيمة لها و لا تستحق مثل تلك المشاغلة و إهداراً للوقت في ظل غياب قانون إنتخاب ديمقراطي و نزيه و حر , يمكّن الأحزاب من الوصول الى البرلمان , و تشكيل الحكومات البرلمانية كما دعت إلى ذلك أوراق النقاش الملكية .
دولتنا تعي جيداً , أن تمكين الأحزاب في الوقت الراهن , له ثلاث سيئات ( كوارث بالنسبة لها ) :
- سيساهم في تقليص صلاحيات الملك الدستورية , لصالح الحكومات البرلمانية , و هذا أمر لم يحدث في العالم العربي عموما ً و في الأنظمة الملكية منها خاصة ً , بالتالي ستجد دولتنا نفسها تطبق مبادىء الملكية الدستورية حتماً .
- الحد من صلاحيات الدولة الأردنية ( دائرة المخابرات العامة ) لصالح الحكومات البرلمانية المشكلة من الأحزاب , و بالتالي إنحراف بوصلة السياسة الأردنية ( الداخلية و الخارجية ) 360 درجة بما لن يتوافق مع مسار الدولة الحالي .
- عدم نضوج الفكر الحزبي داخل الأردن بشكل عام , في الوقت الراهن , و بالشكل الذي يؤهله لتشكيل و إدارة الحكومات , و بالتالي التحكم بمصير العباد و البلاد و جر البلاد ( تفسير الدولة ) الى فوضى سياسية و عدم إستقرار.
أما السبب الأول فحدوثه أمر حاصل لا محالة مع مرور الوقت , بسبب حركة النمو الطبيعية للمجتمع حيث يزداد الوعي بإطراد مع إزدياد المطالب , ما لم تختار الدولة تحجيم و تجيير ذلك النمو و عدم الرضوخ إلى مطالبه , و هذا سيقودها إلى صدام مباشر مع المجتمع الذي سيتحول إلى حراك يزداد حجماً و تمدداً و قوة مع الزمن ) فالمتابع لحركة نمو و تطور المجتمع الأردني خلال القرن الماضي و مطلع الألفية الثانية , يلحظ بأن مجتمعنا في الوقت الراهن , ليس كما كان في سبعينيات و ثمانينات و تسعينيات القرن الماضي , و في هذا تفصيل يعيه جيداً علماء الإجتماع .
أما السبب الثاني و الذي سيشكل و الذي قد يشكّل أرقا و قلقاً كبيرين لدولتنا , و ما كان ليكون بهذا القدر من الأرق , فيما لو كان لدينا فكر حزبي ناضج بكل معنى الكلمة , اذ لا تجد دولتنا تفسيراً منطقياً يقنعها بتمكين الأحزاب السياسية من تشكيل الحكومات و بالتالي تغير بوصلة السياسة , دون وجود تفاهمات مشتركة حول الكثير من القضايا الداخلية و الخارجية , كقرارات السلم و الحرب و الحياد و التعاون . و في ذلك تفصيل , و هذا مبرر منطقي للدولة براي الشخصي غن كنا نتحدث عن تغليب للمصلحة العامة عندما ينعدم البديل الجيد .
و بخصوص السبب الثالث ... فإنه لا بد أن نكون منطقيين قدر الإمكان و نحن نتحدث عن دور محتمل لأحزابنا السياسية في تشكيل الحكومات , و إدارة مرافق الدولة بحيث تكون مستقرة التشكيل و قوية البنيان و قادرة على الايفاء بالتزامتها و واجباتها دون عراقيل تذكر , لأننا نتحدث عن إستقرار مجتمع و دولة مرتبطين بإستقرار أي حكومة حزبية قد تُشكل , فالثمن كبير هنا , لأن الرهان أكبر , و لا مجال للتجارب العبثية هنا .
فهنالك برأي الشخصي , حزب واحد فقط , قادر على تشكيل حكومة بمفرده و لكنه غير قادر على جمع تأييد سياسي كاف لديمومة عمله و تطبيق برنامجه , و بالكاد سيجد بيئة مناسبة تمكنه من العمل بحرية .
و هنالك مجموعة أحزاب , مشتركة الفكر , قادرة مجتمعةً على تشكيل حكومة , و لكنها لن تكون قادرة على كسب تأييد و إجماع لسياستها و برنامجها , و بالتالي لن تكون قادرة على إدارة مرافق الدولة و تأمين الإستقرار السياسي اللازم .
و هنالك باقي الأحزاب السياسية الأخرى , لا أعتقد أنها قادرة , مجتمعةً , على تشكيل حكومة متوافقة فيما بينها , و لن تحظى بأي دعم سياسي أو شعبي و ستخسر في أول جلسة منح ثقة لها و قد تُهيأ البلاد للدخول في دوامة عدم الإستقرار السياسي .
فعند الحديث عن مدى جاهزية أحزابنا السياسية لتشكيل الحكومات البرلمانية و إدارة مرافق الدولة , سنجد الكثير من العراقيل ستعترض تشكيل أي حكومة أو ستعترض إستمرارها و إستقرارها في أحسن الأحوال .
إن ذلك مرده إلى وجود أو عدم وجود القيادات الحزبية , صاحبة الشخصية القوية و القيادية و صاحبة الفكر الحزبي , و لوجود أو عدم وجود برنامج عملي للأحزاب قابل للتطبيق ( ليس ذلك البرنامج المكتوب و المنشور في كتيبات الأحزاب فهو لم يطبق عملياً للوقوف على نتائجه , حيث لا مجال للتجارب هنا , و مرد ذلك أيضا إلى وجود أو عدم وجود قاعدة جماهيرية للأحزاب تمكنها من الإستمرار و تمدّها بالتأييد و الدعم اللازميين .
و أبسط مثال حول منطقية السبب الثالث , يكمن في فرضية إصدار تكليف سامي للأحزاب السياسية لتشكيل الحكومات , و إدارة مرافق الدولة , فليدعوا كل حزب سياسي مثلاً قياداته الحزبية ,و ليناقشوا برنامج العمل ( للرد على كتاب التكليف ) المفترض ) ليعرف كل حزب سياسي مدى قدرته المتوافرة حالياً و مدى جاهزيته لتشكيل حكومات برلمانية أو المشاركة في إئتلاف حاكم .
لا أعتقد البتة , انها مسألة سهلة و يسيرة لاحزابنا السياسية في الوقت الراهن على الاقل , رغم أنني أتمنى حدوث ذلك في أسرع وقت , و لكن ليس قبل جرعة طويلة من دواء مر , عزائها الوحيد أن الدولة ستشاركها في جرعه لتجاوز السبيين الاول و الثااني سالفي الذكر .
أتمنى رؤية فترة إنتقالية ( بإختيار و قبول الدولة و الأحزاب السياسية معاً ) محكومة بفترة زمنية محددة ( ثلاث سنوات او خمس , تزيد أو تنقص ) , يُشترط وجود قناعة لدى الدولة بأنه لا مفر لها, إلا بقبول تطبيق السبيين الأول و الثاني , فيما لو أرادت أن تبحث عن إستقرار سياسي طويل الامد و متين للمملكة الحالية او الخامسة و السادسة و السابعة ... الخ .
الغرض من هذه الفترة الإنتقالية , تأهيل الأحزاب السياسية ( و إن كان لدينا منها من هو مؤهل بالفعل , فكراً و قيادةً و برنامجاً ) لتمكينها من بناء قياداتها الحزبية الواعدة التي تحمل فكراُ حزبياً قادراً على إنشاء و إدارة حكومة و الإجتماع برؤساء دول و حكومات .
و ذلك بالتوازي مع قيام الدولة بالتمهيد لتأسيس قانون إنتخاب ديمقراطي و حر , تضمن نزاهته و تقوم بدورها الواجب و المشروط بنشر التوعية و ثقافة الإنتخاب المبنية على تغليب المصلحة العامة و الترويج لمستقبل الاحزاب عبر وسائل الإعلام لتشجيع المواطنين على الإنخراط في مستقبل العمل الحزبي و محاربة العرف الغليظ السائد و الذي يمنع المواطنين من الإندماج في الاحزاب السياسية .
هو إقتراح بسيط , يحذر الدولة من تداعيات الإستمرار في تهميش دور الاحزاب بل و يحذرها , من عدم مبادرتها للسعي نحو تنمية الاحزاب و تأهيليها حتى نتفادى فوضى سياسية و عدم استقرار للمجتمع و الدولة في المستقبل .
No comments:
Post a Comment